بين ربيع عكا ١٩٣٦، وصيف بيروت ١٩٧٢ توزعت أشلاء الأديب المثقف، والصحافي، والقصاص، والروائي الثائر، المناضل، الكاتب، والاشتراكي المفكر، العاشق، الباحث عن الموت والمنفى، فالحياة لا قيمة لها قط إن لم تكن دائمًا واقفة قُبالة الموت. كان مقاتلاً يحمل الموت ويناضل، ولاجئاً يحمل الموت ليعود، ثورياً والثوار عشاق الموت. فهو لا يريد الطاعة ولا يريد الماء، فقد بدت له الحياة كلّها حقيرة، وأضيق من أن تتسع للإنسان ولجوعه معًا، بل بَدَت له حياته صُدفة فارغة لم يكن لها أي معنى، وأن أخطاء العالم كلها تلتقي عنده.
فالاختيار الحقيقي هو اختيار الموت، لأن الحياة موهوبة لك دون خيار منك، ويقصد غسان بذلك رفض الذل والظلم، وتحدي الإنسان للاستبداد والقهر ورفضهما، إلى الدرجة الذي يصبح اختيار الموت محتملاً، كثمن لحريته. إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت.. إنها قضية الباقين..
وكل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقاً صغيراً يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود.
كانت فلسطين بلا خريطة، فأعادها إلى أرضها وأهلها، وهويتها، أرض البرتقال الحزين، جسد الزيتون والبرتقال والهضاب والوديان، كانت الأرض تسكنه أكثر مما سكنها، حمل الجرح والألم والشقاء والبؤس الحقيقي للمشرد والمهجر والمطارد في مخيمات اللجوء، وفي أصقاع الدنيا كلها، وذلك الوقت الذي يستعيد فيه الخزان الصغير، الذي مات فيه الرفاق وهم في الطريق الصحراوي على حدود الخليج.. فالإنسان في نهاية الأمر، قضية.
حارب الوصوليين والانتهازيين والمرتزقة، في عالم ليس لنا، معتبراً أن من أضاع فلسطين أولئك الذين يكتبون في الجرائد، وهم يجلسون في مقاعد مريحة، وفي غرف واسعة، فيها صور وفيها مدفأة، ثم يكتبون عن فلسطين، وعن حرب فلسطين، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها، ولو سمعوا، لهربوا إلى حيث لا ندري، ففي الوقت الذي كان يناضل فيه بعض الناس ويتفرج بعض آخر، كان هناك بعضٌ آخر يقوم بدور الخائن، أولئك الذين يسرقون رغيفك ثم يعطونك منه كسرة، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم، يا لوقاحتهم...
ويرى غسان أن الصمت هو صراخ من النوع نفسه، بل أكثر عمقاً وأكثر لياقة بكرامة الإنسان، ويعرف عن نفسه بأنه من شعب يشتعل حبًا، ويزهو بأوسمة الأقحوان وشقائق النعمان على صدره وحرفه، ويرى أن الوطن ليس بالضرورة أرضًا كبيرةً، فقد يكون مساحةً صغيرةً جدًا حدودها كتفين.
فالرجل الذي يلتحق بالفدائيين لا يحتاج بعد إلى رعاية أمه، فقد خلقت أكتاف الرجال لحمل البنادق فإما عظماء فوق الأرض أو عظامًا في جوفها.. وأن الثورة جزءاً لا ينقسم عن الخبز والماء وأكف الكدح ونبض القلب، إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية فالأجدر بنا تغيير المدافعين لا القضية.
ويعتبر غسان أن الإنسان يتعلم أمورًا عديدة في لحظات غريبة دون أن يقصد ذلك.. ألست ترى أن التشاؤم هو الشجاعة؟ ألست ترى أنّ التفاؤل هو كذب وهروب وجبن؟ أنت تعرف أن الحياة قميئة وسيئة، فلماذا تواصل الأمل بها؟ ربما يكون قد أمضى حياته جاهلًا تعسًا، لكنه قد تعلم أخيرًا درسًا صغيرًا واحدً، بسيطًا ولكنه أساسي للغاية، وهو أنك إذا أردت أن تحصل على شيء ما، فخذه بذراعيك وكفيك وأصابعك.
كان عاشقاً من الطراز النادر، كان جميلًا في كل شيء، صداقته، حبه، أخلاقه، تعامله حتى في البعد كان جميلًا، وفي الوقت الذي يعد راغبًا في أيّ شيء، وكلّ الأشياء التي اعتقد أنّه أحبها، فقدَت معناها تمامًا، بل أنه اعترف بالتعب من الوقوف بدون الحبيبة.
ويقول لها بقوة العاشق المتيم: إنني أريدك، بمقدار ما لا أستطيع أخذك، إنني أقول لك كل شيء لأنني أفتقدك......فأنا ببساطة لم أعرف أحدًا في حياتي مثلك، أبدًا أبدًا..لم أقترِب من أحدٍ كما اقتربت منك أبدًا أبدًا ولذلك لن أنساكِ .. لا .. إنكِ شيء نادرٌ في حياتي، بدأت معكِ ويبدو لي أنني سأنتهي معكِ.
احترم المرأة ، وقدس تضحياتها، فالمرأة توجد مرة واحدة في عمر الرجل، وكذلك الرجل في عمر المرأة، وكل ما عدا ذلك ليس إلا محاولات للتعويض، وكتب يقول: كنت أعرف في أعماقي أنني لا أستحقك، ليس لأنني لا أستطيع أن أعطيك حبات عيني، ولكن لأنني لا أستطيع الاحتفاظ بك إلى الأبد. ولن يستطيع شيء في العالم أن يجعلني أفقدك، فقد فقدت قبلك وسأفقد بعدك كل شيء. لا أريد أن تغيب عني عيناك اللتان أعطتاني ما عجز كل شيء انتزعته في هذا العالم من إعطائي ... ببساطة لأني أحبك.
آمن بأن الانسان يتغير، نعم يتغير، لو قلت في الأربعين ما كنت أردده بالعشرين فمعناه أن عشرين سنة من عمري ضاعت سدى. ورغم رفضه التعلق بشخص لا يتعلق بك بنفس القوة، لا يكتب لك، لا يزاحم يومك، لا يقرأ ما بك، لا يحفظ أهم تواريخك، ولا يملأ حياتك بالمفاجآت. إلا أنه كان حكيماً، وأضاف إياك أن تخسر قلباً يحاول أن يفعل الكثير ليسعدك، فهناك قلوب لا تعوض أبداً.
لنجعل من نفسينا معاً شيئا أكثر بساطة ويسراً، لنضع ذراعينا معاً ونصنع منها قوساً بسيطاً فوق التعقيدات التي نعيشها وتستفزنا، أنت عندي أروع من غضبك وحزنك وقطيعتك.... أنت عندي شيء يستعصي على النسيان...... أنت نبية هذا الظلام الذي أغرقتني أغواره الباردة الموحشة، وأنا لا أحبك فقط، ولكنني أؤمن بك مثلما كان الفارس الجاهلي يؤمن بكأس النهاية يشربه وهو ينزف حياته، أؤمن بك كما يؤمن الأصيل بالوطن والتقي بالله والصوفي بالغيب.
لا تكتبي لي جواباً، لا تكترثي لا تقولي شيئاً، إنني أعود إليك مثلما يعود اليتيم، إلى ملجأه الوحيد، وسأظل أعود. أريد أن أستريح، أتمدد، أستلقي في الظل وأفكر أو لا أفكر، لا أريد أن أتحرك قط لقد تعبت في حياتي بشكل أكثر من كاف، أي والله أكثر من كاف.